الجمعة، 14 مارس 2014

من كتاب الخطط للمقريزي ـــ الجزء الأول

 ذكر محل مصر من الأرض وموضعها من الأقاليم السبعة
وإذ يسر الله سبحانه بذكر جمل أحوال الأرض ومعرفة ما في كل إقليم من أقاليم الأرض فلنذكر محل مصر من ذلك فنقول‏:‏ ديار مصر بعضها واقع في الإقليم الثاني وبعضها واقع في الإقليم الثالث فما كان منها في الصعيد الأعلى كقوص واخميم وأسنى وأنصنا وأسوان فإنَّ ذلك واقع في أقسام الإقليم الثاني وما كان من ديار مصر في جهة الشمال من أنصنا وهو الصعيد الأدنى من أسيوط إلى فسطاط مصر والفيوم والقاهرة والإسكندرية والفرما وتنيس ودمياط فإن ذلك من أقسام الإقليم الثالث وطول مدينة مصر الفسطاط والقاهرة وهو بعدهما من أوّل العمارة في جهة المغرب‏:‏ خمس وخمسون درجة والعرض وهو البعد من خط الاستواء ثلاثون درجة وطول النهار الأطول أربع عشرة ساعة وغاية ارتفاع الشمس في الفلك بها ثلاث وثمانون درجة وثلث وربع درجة وفسطاط مصر مع القاهرة من مكة شرّفها اللّه تعالى واقعان في الربع الجنوبي الشرقيّ والصعيد الأعلى أشدٌ تشريقًا لبعده عن مدينة الفسطاط بأيام عديدة في جهة الجنوب فيكون على ذلك مقابلًا لمكة من غربيها ومصر لا يتوصل إليها إلا من مفازة ففي شرقيها بحر القلزم من وراء الجبل الشرقي وفي غربيها صحراء المغرب وفي جنوبها مفازة النوبة والحبشة وفي شمالها البحر الشامي والرمال التي فيها بين بحر الروم وبحر القلزم وبين مصر وبغداد على ما ذكره ابن خرداذبه في كتاب الممالك والمسالك‏:‏ ألف وسبعمائة وعشرة أميال يكون خمسمائة وسبعين فرسخًا ومائة وبضعًا وأربعين بريدًا وبين مصر والشام أعني دمشق‏:‏ ثلاثمائة وخمسة وستون ميلًا تكون من الفراسخ مائة وإحدى وعشرين فرسخًا وثلثي فرسخ عنها ثلاثون بريدًا وكسر‏.‏
وقال ابن خرداذبه‏:‏ أرض الحبشة والسودان مسيرة سبع سنين وأرض مصر جزءًا واحد من ستين جزءًا من أرض السودان وأرض السودان جزء واحد من الأرض كلها‏.‏
وفي كتاب هردوشيش‏:‏ بلد مصر الأدنى شرقه فلسطين وغربه أرض ليبية وأرض مصر الأعلى تمتدّ إلى ناحية الشوق وحده في الشمال خليج الغرب وفي الجنوب البحر المحيط وفي الغرب مصر الأدنى وفي الشرق بحر القلزم وفيه من الأجناس ثمانية وعشرون جنسًا‏.‏
 ذكر حدود مصر وجهاتها
اعلم أن التحديد هو صفة المحدود على ما هو عليه والحدّ هو نهاية الشيء والحدود تكثر وتقل بحسب المحدود والجهات التي تحدّ بها المساكن‏.‏
والبقاع أربع جهات وهي‏:‏ جهة الشمال‏:‏ التي هي إشارة إلى موضع قطب الفلك الشماليّ المعروف من كواكبه الجدي والفرقدان ويقابل جهة الشمال الجهة الجنوبية والجنوب عبارة‏:‏ عن موضع قطب الفلك الجنوبيّ الذي يقرب منه سهيل وما يتبعه من كواكب السفينة والجهة الثالثة‏:‏ جهة المشرق وهو مشرق الشمس في الاعتدالين اللذين هما رأس الحمل أوّل فصل الربيع ورأس الميزان أوّل فصل الخريف والجهة الرابعة‏:‏ جهة المغرب وهو مغرب الشمس في الاعتدالين المذكورين فهذه الجهات الأربع ثابتة بثبوت الفلك غير متغيرة بتغير الأوقات وبها تحدّ الأراضي ونحوها من المساكن وبها يهتدي الناس في أسفارهم وبها يستخرجون سمت محاريبهم‏.‏
فالمشرق والمغرب معروفان والشمال والجنوب جهتان مقاطعتان لجهتي المشرق والمغرب على تربيع الفلك فالخط المار بنقطتي الشمال والجنوب يُسمى‏:‏ خط نصف النهار وهو مقاطع للخط المار بنقطتي المشرق والمغرب المُسمى‏:‏ بخط الاستواء على زوايا قائمة وأبعاد ما بين هذين الخطين متساوية فالمستقبل للجنوب يكون أبدًا مستدبرًا للشمال ويصير المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره وهذه الجهات الأربع هي التي يُنسب إليها ما يحد من البلاد والأراضي والدور إلا أن أهل مصر يستعملون في تحديدهم بدلًا من الجهة الجنوبية لفظة القبلية فيقولون الحدّ القبليّ ينتهي إلى كذا ولا يقولون الحدّ الجنوبيّ وكذلك يقولون الحدّ البحريّ ينتهي إلى كذا ويريدون بالبحريّ الحدّ الشماليّ وقد يقع في هاتين الجهتين الغلط في بعض البلاد وذلك أن البلاد التي توافق عروضها عرض مكة إذا كانت أطوالها أقل من طول مكة فإن القبلة تكون في هذه البلاد نفس الشرق بخلاف التي توافق عروضها عرض مكة إلا أن أطوالها أطول من طول مكة فإنَّ القبلة في هذه البلاد تكون نفس الغرب فمن حدّد في شيء من هذه البلاد أرضًا أو مسكنًا بحدود أربعة فإنه يصير حدّان منها حدًّا واحدًا وكذلك جهة البحر لما جعلوها قبالة جهة القبلة وحدّدوا ما بينهما من الأراضي والدور بما يسامتها منه فإنهم أيضًا ربما غلطوا وذلك أن القبلة والبحر يكونان في بعض البلاد في جهة واحدة فإذا عرفت ذلك فاعلم أن أرض مصر‏:‏ لها حدّ يأخذ من بحر الروم ومن الإسكندرية وزعم قوم من برقة في البرّ حتى ينتهي إلى ظهر الواحات ويمتدّ إلى بلد النوبة ثم يعطف على حدود النوبة في حد أسوان على حدّ أرض السبخة في قبليّ أسوان حتى ينتهي إلى بحر القلزم ثم يمتدّ على بحر القلزم ويجاوز القلزم إلى طور سينا ويعطف على تيه بني إسرائيل مارًا إلى بحر الروم في الجفار خلف العريش ورفح ويرجع إلى الساحل مارًا على بحر الروم إلى الإسكندرية ويتصل بالحدّ الذي قدمت ذكره من نوحي برقة‏.‏
وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز في رسالته المصرية‏:‏ أرض مصر بأسرها واقعة في المعمورة في قسمي الإقليم الثاني والإقليم الثالث ومعظمها في الثالث وحكى المعتنون بأخبارها وتواريخها أنَّ حدها في الطول من مدينة برقة التي في جنوب البحر الرومي إلى أيلة من ساحل الخليج الخارج من بحر الحبشة والزيج والهند والصين ومسافة ذلك قريب من أربعين يومًا وحدها في العرض من مدينة أسوان وما سامتها من الصعيد الأعلى المتآخم لأرض النوبة إلى رشيد وما حاذاها من مساقط النيل في البحر الروميّ ومسافة ذلك قريب من ثلاثين يومًا ويكتنفها في العرض إلى منتهاها جبلان أحدهما في الضفة الشرقية من النيل وهو المقطم والآخر في الضفة الغربية منه والنيل متسرب فيما بينهما وهما جبلان أجردان غير شامخين يتقاربان جدًا في وضعهما من لدن أسوان إلى أن ينتهيا إلى الفسطاط ثم يتسع ما بينهما وينفرج قليلًا ويأخذ المقطم منهما مشرّقًا والآخر مُغرّبًا على وراب في مأخذيهما وتفريج في مسلكيهما فتتسع أرض مصر من الفسطاط إلى ساحل البحر الرومي الذي عليه الفرماء وتنيس ودمياط ورشيد والإسكندرية فهناك تتقطع في عرضها الذي هو مسافة ما بين أوغلها في الجنوب وأوغلها في الشمال وإذا نظرنا بالطريق البرهانية في مقدار هذه المسافة من الأميال لم تبلغ ثلاثين ميلًا بل تنقص عنها نقصانًا ما له قدر وذلك لأن فضل ما بين عرض مدينة أسوان التي هي أوغلها في الجنوب وعرض مدينة تنيس التي هي أوغلها في الشمال تسعة أجزاء ونحو سدس جزء وليس بين طوليها فضل له قدر يعتدّ به وينوب ذلك نحو خمسمائة وعشرين ميلًا بالتقريب وذلك مسافة عشرين يومًا أو قريب منها وفي هذه المدة من الزمان تقطع السفار ما بين البلدين بالسير المعتدل أو كثر من ذلك لما في الطريق من التعويج وعدم الاستقامة‏.‏
وقال القضاعي‏:‏ الذي يقع عليه اسم مصر من العريش إلى آخر لوبية ومراقيه وفي آخر أرض مراقيه تلقى أرض انطابلس وهي برقة ومن العريش فصاعدًا يكون ذلك مسيرة أربعين ليلة وهو ساحل كله على البحر الرومي وهو بحريّ أرض مصر وهو مهب الشمال منها إلى القبلة شيئًا ما فإذا بلغت آخر أرض مراقيه عدّت ذات الشمال واستقبلت الجنوب وتسير في الرمل وأنت متوجه إلى القبلة يكون الرمل من مصبه عن يمينك إلى إفريقية وعن يسارك من أرض مصر إلى أرض الفيوم منها وأرض الواحات الأربعة فذلك غربيّ مصر وهو ما استقبلته منه ثم تعوج من آخر أرض الواحات وتستقبل المشرق سائرًا إلى النيل تسير ثماني مراحل إلى النيل ثم على النيل فصاعدًا وهي آخر أرض الإسلام هناك ويليها بلاد النوبة ثم ينقطع النيل فتأخذ من أسوان في المشرق منكبًا عن بلد أسوان إلى عيداب ساحل البحر الحجازي فمن أسوان إلى عيداب خمس عشرة مرحلة وذلك كله قبليّ أرض مصر ومهب الجنوب منها ثم ينقطع البحر الملح من عيداب إلى أرض الحجاز فينزل الحوراء أوّل أرض مصر وهي متصلة بأعراض مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا البحر المحدود‏:‏ هو بحر القلزم وهو داخل في أرض مصر بشرقيه وغربيه وبحريه فالشرقيّ منه أرض الحوراء وطنسه والنبك وأرض مدين وأرض أيلة فصاعدًا إلى المقطم بمصر والغربيّ منه ساحل عيداب إلى بحر النعام إلى المقطم والبحريّ منه مدينة القلزم وجبل الطور ومن القلزم إلى الفرماء مسيرة يوم وليلة وهو الحاجز فيما بين البحرين طحر الحجاز وبحر الروم وهذا كله شرقيّ أرض مصر من الحوراء إلى العريش وهو مهب الصبا منها فهذا المحدود من أرض مصر وما كان بعد هذا من الحدّ الغربيّ فمن فتوح أهل مصر وثغورهم من البرقة إلى الأندلس‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق